في موجة لافتة تكشف عودة قوية لمشروعها الفكري في زمن مضطرب، تتسابق دور نشر أوروبية اليوم إلى إعادة إصدار طبعات جديدة من أعمال حنّة آرندت. ففي السنتين الأخيرتين، أعادت دور نشر عالمية مثل "راندوم هاوس" و"هيردير" و"باخينا إندوميتا" نشر كتب محورية لها، مثل: "أسس التوتاليتارية"، و"في الثورة"، و"إيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر"، و"الوضع البشري" إلى جانب نصوص عنها وعن مشروعها الفكري. هذا الزخم، الذي يُضاف إليه صدور سيرة فكرية للمفكر الألماني توماس ماير، يكشف أنّ العودة إلى آرندت صارت حاجة لفهم حاضر تتكاثف فيه الأزمات.
هي حاجة، إذاً، تتجاوز دلالات الاحتفاء الأكاديمي. فاللحظة الراهنة تستدعيها بوصفها صوتاً قادراً على قراءة التحولات الكبرى: حربٌ تدور في قلب أوروبا، مأساة إنسانية وإبادة جماعية في غزة، تلاعب واسع بالفضاء العام تقوده القوى الرقمية وصناعة "الحقائق البديلة". في هذا السياق بالغ الارتباك، يعود سؤال آرندت القديم ليطلّ من جديد: كيف يمكن للفكر أن يحافظ على استقلاله وسط الضغوط الأيديولوجية والانفعالات الجماعية؟
يذهب الباحث الألماني ماير، صاحب السيرة الفكرية لحنّة آرندت، إلى أنّ حاضرنا السياسي والاجتماعي هو ما يعيدها إلى الضوء. إذ يرى أنَّ التجارب القاسية التي نعيشها اليوم تحفّز على الرجوع إلى مفهومها للفضاء العام، وإلى دفاعها عن دور المثقف ضميراً يقاوم الانجراف وراء الخطابات المطلقة. ويذكّر ماير بأن آرندت بقيت على الدوام في منطقة رمادية بين الالتزام السياسي وضرورة حماية التفكير من أي تبعية فكرية، ورفضت الانتماء إلى "القبيلة" الثقافية أو الفلسفية، سواء عند سارتر وبوفوار أو في الأوساط الأكاديمية المغلقة. هذا التشديد على استقلال الفكر كان سمة بارزة في مشروعها منذ "أسس التوتاليتارية" وصولاً إلى "الوضع البشري".
لحظة راهنة تستدعيها بوصفها صوتاً يقرأ التحولات الكبرى
لم تكن آرندت تدّعي أن الماضي يقدّم نماذج تُستنسخ، لكنها كانت تؤمن بأن بقايا التجربة البشرية قادرة على إضاءة الحاضر. لذلك اعتبرت الفهم، لا المعرفة المجردة، حجر الأساس في مقاربة السياسة. "المسألة هي كيف لا نُترك ننقاد مع التيار"، كتبت في يومياتها، وهي عبارة تبدو أكثر راهنية اليوم.
الاهتمام المتجدد بآرندت لا يقتصر على نشر أعمالها، بل يمتد إلى تحليل صورتها الفكرية. ففينا بيروليس تستعيد حضورها من زاوية الإرث غير المكتمل، فيما تضع ماريام مارتينيث-باسكونيان تفكيرها في قلب جدل ما بعد الحقيقة. أما وولفرام آيلنبيرغر، صاحب كتاب "نار الحرية"، فيقدّمها بوصفها تجربة فلسفية متجسّدة، امرأة عبرت القرن العشرين على إيقاع التحولات الكبرى: من كونيغسبرغ التي وُلدت فيها، إلى علاقتها المعقدة مع هايدغر، وصداقة والتر بنيامين في باريس، ثم حياتها في نيويورك بين المثقفين اليهود الألمان.
هذا المسار المتشابك بين الفلسفة والحياة هو ما يجعلها، بعد مرور خمسين عاماً على رحيلها في الرابع من ديسمبر/ كانون الأول 1975، حاضرة بقوة في النقاشات الفكرية الأوروبية. ذكرى غيابها تأتي هذا العام حدثاً جانبياً، مرتبطاً بزخم إعادة اكتشافها، أكثر مما هي مناسبة لتأبين مفكرة راحلة. ذلك أنّ آرندت لم تعد اسماً من الماضي بل أضحت جزءاً من حاضر يسعى إلى فهم مخاطر السلطة المطلقة، والانهيار الأخلاقي الذي قد يطرأ حين يتفكك العالم المشترك بين البشر.
جعفر العلوني
