إنّها لمفارقةٌ صارخة أن يكون أباطرة التقنية الرقمية المعاصرون ملء السمع والبصر كلّ حين؛ لكنّ (الصانع الأمهر) الذي مكّنهم من أن يصيروا أباطرةً في هذا العالم يعيش مختفياً في شقة لندنية متواضعة، ولو شاء لبزّ الجميع في ثروته. إنّه السير تِمْ بيرنرز- لي Tim Berners-Lee، أوّلُ من ابتدع فكرة الشبكة العالمية World Wide Web، أو الإنترنت.
يُعرَفُ عن بيرنرز - لي في أثناء عمله أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات في مختبر سيرن للأبحاث النووية في جنيف بسويسرا أنّه اقترح فكرة ربط الوثائق عبر الإنترنت باستخدام روابط تشعبية (hyperlinks) وبروتوكولات مثل HTTP و HTML، والتي صارت لاحقاً حجر الأساس في فلسفة الربط الشبكي المعلوماتي العالمي. اعتمد السير لي منذ بواكير عمله الثوري قراراً أخلاقياً صارماً حين أتاح شفرة المشروع (الويب) للعامة مجاناً دونما احتكار أو حقوق ملكية؛ الأمر الذي ساعد في انتشار الشبكة بسرعة. أسّس لي مع جهات أخرى اتحاد الويب (World Wide Web Consortium) الذي يرمزُ له W3C، وذلك لضمان معايير موحدة ومفتوحة لشبكة العالمية. من المشاريع التي يشارك بها لي الآن، ويدعمها بقوة هو مشروع Solid الذي يهدف إلى إعادة سيطرة المُسْتخدِم على بياناته عبر تخزينها في «وحدات بيانات شخصية Data Pods» بدلاً من جعلها ملكية مشاعة للشركات المتغوّلة المهيمنة على فعاليات الشبكة العالمية والتي جعلتها وسيلة للتربّح الفاحش. على الصعيد الشخصي يعرَفُ عن لي أنّ لديه خلفية أكاديمية وعملية راسخة، وهو معروف بدعمه للمبادئ الأخلاقية في التقنية مثل حرية الإنترنت، وحقوق الخصوصية، والحياد الشبكي net neutrality (أي عدم جعل الشبكة منصّة للترويج الآيديولوجي والسياسي المشخّص أو المستهدَف).
نشر السير لي هذه السنة (2025) كتاباً جديداً يجمع بين سيرته الذاتية والفلسفة التقنية للشبكة العالمية، وأظنّه فعل حسناً؛ إذ زاوج بين سيرته والشبكة العالمية لأنْ لا انفصام بينهما، تماماً كما أنّ النظرية النسبية تعدُّ جزءاً بنيوياً من سيرة ألبرت آينشتاين. عنوان الكتاب:
هذا للجميع: القصة غير المكتملة للشبكة العالمية This is for Everyone: The Unfinished Story of the World Wide Web،
يمتدّ الكتاب على 400 صفحة، مازجاً بطريقة عضوية بارعة بين السيرة الذاتية وتاريخ الشبكة العالمية، فضلاً عن تقديمه تحليلاً للتحدّيات التي تواجه هذه الشبكة اليوم، مع اقتراحات لإصلاح أو إعادة التوازن لبلوغ شبكة أكثر إنسانية. الكتاب تركيبة كولاجية مشوّقة تجمع بين القصص الشخصية، والتفاصيل التقنية، والرؤى المستقبلية.
يبدأ الكتاب بمقدّمة تمهيدية Prologue تضع القارئ في سياق التوتر بين الوعد الأصلي لمبتدع الشبكة - كفضاء مفتوح، شفاف، مشترك للجميع - وبين الواقع الذي أصبح فيه جزء من الشبكة مركزياً من حيث السيطرة والربحية اللتين تخضعان بالكامل للهيئة الإمبراطورية التقنية للشركات الكبرى المعروفة.
بعد المقدّمة الضرورية التي تشرح خريطة الأفكار الكبرى في الكتاب يشرع المؤلف عبر 19 فصلاً في حكاية سيرته المتعشّقة مع الشبكة العالمية. في الفصل الأوّل المسمّى (الأيام المبكّرة) يسرد المؤلف المراحل الأولى لميلاد الأفكار التي قادت إلى تخليق الشبكة العالمية. يتحدّث عن طفولته، وانجذابه لسحر الحاسوب، وتجاربه المبكرة وارتباطها بشغفه اللامحدود لفكرة المعلومات. في الفصل الثاني يحكي المؤلف عن دوره في مختبر CERN، وكيف تطورت فكرة الشبكة العالمية هناك، والتحديات التقنية والتنظيمية التي واجهت المشروع داخل المؤسسة العالمية، ثمّ يتناول في الفصل الثالث لحظة «انطلاق» المشروع: كيف بدأ المشروع يأخذ شكله العملي، كيف بدأ الربط، الاختبارات الأولى، والانتشار البطيء في المجتمعات العلمية. ثم يمضي المؤلف في الفصول اللاحقة في تفصيل التطورات التي حصلت لفكرة الشبكة العالمية، مع شرح خبير للمعضلات التقنية والأخلاقية التي توقّع منذ البدء نشأتها مع مشروع عالمي القياس كالشبكة العالمية. ليس مِنْ تقنية أكثر تأثيراً فينا من الشبكة العالمية بسبب شيوعها على مقياس عالمي، وقدرتها على بلوغ كلّ فرد (أي بمعنى عدم اقتصارها على جماعات نخبوية)، وتأثيرها في تشكيل وصياغة التوجّهات الفردية على كلّ المستويات، ولتجاوزها محدّدات التكلفة واشتراطات الزمان والمكان والعوائق الجغرافية والعرقية.
لو شئنا الإشارة إلى أهمّ الأفكار التي أوردها السير لي في كتابه فيمكن تلخيصُها في التالي: بدأت الشبكة العالمية كمبادرة مفتوحة وتعليمية الطابع بغرض ربط العلماء معلوماتياً مع بعضهم بدلاً من المرابحة وجني الأموال كما يحصل اليوم. يشير لي في ملاحظة كاشفة أنّه عمل على تحرير هذا النظام، وجعله متاحاً خارج الأسوار الأكاديمية والبحثية حتى تعمّ الفائدة منه أكبر الأوساط الممكنة سعياً وراء المنفعة المجتمعية (الحكومات، المؤسسات الأكاديمية العالمية مثل الجامعات). لن يتغافل لي أيضاً عن التهديدات واسعة النطاق التي تواجه (روح الشبكة العالمية) بسبب التوسع التجاري، وظهور منصّات تسيطر على البيانات، وتستغلُّ المستخدِمين كمنتِجين للمحتوى، وتبيع انتباههم للإعلانات، وتستخدم تقنيات تتبّع وجمع بيانات كثيفة. يؤكّد لي أيضاً على تعاظم المركزية في الشبكة العالمية مقابل ضمور اللامركزية فيها، وأنّ كثيراً من مزايا الشبكة العالمية قد تراجعت بسبب بروز منصات مركزية (مثل فيسبوك، غوغل،...). يدعو لي إلى تعزيز مفهوم وممارسة اللامركزية في الشبكة العالمية؛ بمعنى بناء بنى لا مركزية تعيد السلطة للمستخدمين، وتخفف سطوة الإمبراطوريات التقنية الاحتكارية للشبكة؛ ولأجل تحقيق هذه الرؤية الطموحة يدعو لي - كما ذكرتُ في ملاحظة سابقة بشأن مشروعه المسمّى Solid- لتخليق مفهوم (وحدات البيانات الشخصية) لتكون بديلاً عن نماذج التحكم المركزي للشركات العملاقة. تتأسّس فكرة هذا المشروع حول أنّ كلّ مستخدم يمتلك مخزونه الخاص من البيانات التي بمستطاعه مشاركتُها مع من يختار، بدلاً من أن تكون ملكية مُحتكرة من قبل شركات ضخمة توظّفها كما تشاء. يؤكّد لي أيضاً فكرة غاية في الأهمية، وأظنّها هي الخصيصة السيكولوجية التي تعتمدها الشركات المتغوّلة لتعظيم أرباحها. يوجّه لي سهام النقد المُر لشيوع فكرة الانتباه مقابل النية Attention vs. Intention السائدة اليوم- هذا النموذج القائم على الشدّ المستمر لإثارة اهتمام المستخدم، ويقترح أنّ النمو التقني يجب أن يُوجَّه لخدمة نوايا المستخدم الحقيقية، وليس للسيطرة على انتباهه بغية حرفه عن مقاصده الأصلية نحو ما تسعى إليه الشركات لا ما يسعى هو إليه. لن يتناسى لي بالتأكيد الذكاء الاصطناعي وأخلاقياته، خصوصاً أنّه قد أصبح البشير بعصر تنوير جديد بدلاً من كونه محض ثورة تقنية جديدة. يناقش لي في هذا الشأن التأثير المتزايد للتعلّم الآلي على المحتوى والتوصية والتحكم، ويحذّرُ من أنّ هذه التقنيات المقترنة بالذكاء الاصطناعي قد تُستخدَمُ لتعميق التحيزات الضارة. لا يغفل لي عن الإشارة إلى العلاقة العضوية بين التقنية والمجتمع، ويكرّرُ في غير موضع من الكتاب أنّ القرارات التقنية ليست محايدة، بل تعكس قيماً سياسية واجتماعية محدّدة، وأنّ تغييرات بسيطة في التصميم والتنفيذ للمشروعات التقنية الكبرى (على شاكلة الشبكة العالمية) قد تؤدي إلى متغيّرات كبيرة غير متوقّعة على السلوك الجمعي العام. يدعو لي للعمل الجماعي في مواجهة المعضلات الخاصة بالشبكة العالمية. لا يرى لي أنّ الحلول فردية فقط؛ بل يعتمد الأمر على تعاون الحكومات، والمؤسسات، والمجتمعات التقنية، والمستخدمين أنفسهم، كما يشدّد على أهمية المبادرات ذات النطاق العالمي، ويقدّم مبادرة مثل Contract for the Web مثالاً عملياً فاعلاً على المستوى العالمي.
انتقد بعض مراجعي الكتاب في الصحف العالمية على أساس إسهابه في عرض الفكرة الأساسية (الشبكة العالمية للجميع) على نحو خطابي أشبه بالبيان الأخلاقي أكثر من كونه تحليلاً متعمقاً، كما أشاروا إلى أنّ لي معروف بكونه مهندساً ومفكراً تقنياً؛ لكنه ليس كاتباً أدبياً؛ لذا فإنّ لغته، رغم وضوحها، تميل إلى الجفاف الأكاديمي أحياناً.
يأخذ كثير من النقاد على لي مثاليته الأخلاقية لكونه يُقلّل من قوة المصالح الاقتصادية والسياسية التي تتحكم حالياً في الشبكة العالمية، ويضيفون أنّ مقترحاته - مثل مشروع Solid أو ميثاق الشبكة العالمية - تُعد جميلة كتأسيس نظري؛ لكنها تبدو صعبة التطبيق عملياً في عالم تحكمه شركات عملاقة مثل ميتا وغوغل وأمازون.
من جانبي أظنُّ أنّ الكتاب عظيم الأهمية من الوجهتين الفكرية والتاريخية حتى لو بدا فيه لي أقرب إلى (غورو) أخلاقي. ليس بالضرورة أن يقدّم الكتاب حلولاً تقنية أو يوغل في مقارباته العملية المتناغمة مع اشتراطات السياسة والتربح المالي. قيمة الكتاب تكمن في تحريك الضمير العالمي عبر إعادة طرح الأسئلة الأخلاقية حول واقع ومستقبل الشبكة العالمية من جانب (الأب) المؤسس لها الذي ارتضى العيش في شقة لندنية فقيرة، ولو شاء ربما لكان أوّل تريليونير في العالم.
