من بونداي إلى تدمر... تحدي «داعش» العابر للحدود

في لحظة بدت عابرة على شاطئ سياحي هادئ في سيدني، تحوّل احتفال إلى مجزرة، وفي صحراء تدمر السورية سقط جنود أميركيون بنيران مهاجم واحد. جغرافياً لا يجمع بين الحدثين شيء، لكن استراتيجياً وفكرياً يجمعهما الكثير: عودة الإرهاب لا بوصفه تنظيماً مسيطراً على الأرض، بل بوصفه فكرة قاتلة عابرة للحدود، تتحرك عبر الأفراد، وتستثمر في «الذئاب المنفردة» أكثر مما تستثمر في الجيوش والرايات، وهي اليوم تستثمر في «عائلات مستذئبة» عطفاً على اشتراك الوالد والولد في هجوم أستراليا الدموي.

ما جرى في شاطئ بونداي لم يكن حدثاً مفاجئاً خارج السياق، بل حلقة مكررة في مسار تطرف طويل. فالمهاجم، نافيد أكرم، كان معروفاً لدى أجهزة الاستخبارات الأسترالية منذ عام 2019، حيث خضع لتحقيقات بسبب ارتباطه بدائرة متطرفة قريبة من تنظيم «داعش»، ثم صُنّف لاحقاً بوصفه «غير مهدد». هذا القرار - الذي بدا آنذاك مبرراً لدى السلطات الأسترالية - انكشف اليوم بوصفه أحد حدود الفهم الأمني القاصر للإرهاب الذي يطور من أدوات تجنيده واستقطابه، صحيح أن أكرم لم يكن عضواً تنظيمياً فاعلاً، ولم يكن يتحرك ضمن خلية عملياتية نشطة، لكنه كان منغمساً في ثقافة تنظيم «داعش»: الفكرة المسيطرة، والرمزيات، والسردية والولاء النفسي والعاطفي للعنف الفوضوي لصالح استراتيجية «إدارة التوحش».

هذه هي النقطة الجوهرية في تحوّلات «داعش» التي تبدو مفاجئة كل مرة لمن يتعامل معه باستخفاف أو يعتقد أنه قد انتهى، فالتنظيم الذي خسر «الخلافة» المزعومة في العراق وسوريا لم يضمحل أو يتلاش رغم تراجعه وأسر كثير من أنصاره، بل أعاد تعريف نفسه. عبر الابتعاد عن التموضع المكاني، وبناء «دولة متخيلة» يعيشها أتباعه ذهنياً ورقمياً. خلافة لا تحتاج إلى حدود، ولا إلى قيادة هرمية واضحة، ولا حتى إلى تواصل تنظيمي مباشر. يكفي أن يؤمن الفرد بالفكرة، وأن يستهلك خطابها، وأن يتشبع بثقافتها الدموية، ليصبح بمثابة مشروع منفذ محتمل.

الهجوم على القوات الأميركية في تدمر يعكس الوجه الآخر للمسألة ذاتها. حسب التحقيقات، نفذ الهجوم مسلح واحد متردد بين الانتماء لتنظيمات عدة استطاع التسلل ليس إلى فصيل أمني فحسب، بل إلى اجتماع مغلق، مستفيداً من الثغرات الأمنية وحالة التشابك الآيديولوجي ليقوم بعملية قتلت جنوداً أميركيين ومترجماً، وأسهمت في إرباك الحكومة السورية الجديدة، وإعادة طرح سؤال العلاقة بين الفكرة المسيطرة والتحولات.اللافت أن تنظيم «داعش»، بالتوازي مع توسعه الدموي في غرب أفريقيا - حيث يستعيد نماذج السيطرة والتمكين وإعادة الانتشار - لا يتخلى عن حضوره العالمي الذي يحافظ له على مزيد من الاستقطاب الرقمي والتجنيد، ومن هنا بات التنظيم ينوّع أدواته. في أفريقيا لديه مناطق سيطرة جغرافية، وفي أوروبا وأستراليا ومناطق متعددة من العالم، بمثابة دولة فكرة متطرفة مسيطرة و«ذئاب منفردة» تنتظر الفرصة. هذا التوزيع ليس عشوائياً، بل يعكس فهماً عميقاً لاختلاف البيئات الأمنية والاجتماعية. حيث يصعب التحرك التنظيمي الجماعي، ويسهل تحرك الفرد في ظل عدم معالجة ثقافة البيئات الخصبة لتمدد التنظيم، لا سيما على شبكات التواصل.

شبكة الإنترنت هي المسرح الحقيقي لهذا التحول. لم تعد منصات التواصل مجرد أدوات دعاية، بل تحولت إلى معسكرات تدريب رقمية كاملة: من إعادة تأطير الآيديولوجيا والمظلومية، إلى تطبيع العنف، إلى تقديم نماذج «بطولية» للقتل الفردي، وصولاً إلى الإيحاء بالتخطيط والتنفيذ والمتابعة النفسية بعد العملية. في هذا الفضاء، لا يحتاج المجنَّد إلى لقاء، ولا إلى تعليمات مباشرة. يكفي أن يشعر بأنه جزء من سردية كبرى عالمية، وأن فعله - مهما بدا صغيراً - سيُقرأ بوصفه انتصاراً للتنظيم.

هنا تحديداً تتعثر المقاربات الأمنية القديمة. فمراقبة الأفراد، مهما بلغت دقتها، فإنها تظل فعلاً لاحقاً، وردّ فعل على إشارات قد لا تبدو خطرة في لحظتها. نافيد أكرم لم يكن «خطراً وشيكاً» وفق معايير 2019، لكنه كان بمثابة مشروع خطر مؤجل. والتطرف، بخلاف الإرهاب التنظيمي، لا يسير بخط مستقيم، بل يتقدم ويتراجع لأنه يتغذى على تحولات نفسية واجتماعية لا يمكن رصدها فقط عبر السجلات الأمنية.

معركة «الذئاب المنفردة» لا تُحسم بالرقابة وحدها، بل باستراتيجية استباقية شاملة تعالج الجذور لا الأعراض. المطلوب ليس فقط تعقّب الأفراد، بل تفكيك منظومة الاستقطاب ذاتها: الخطاب، والرموز، والسرديات، والبيئات الرقمية التي تمنح العنف معنى وهوية. فك الارتباط بين «داعش» وبين أي بيئة حاضنة لفكره - دينية كانت أو اجتماعية أو افتراضية - هو التحدي الحقيقي.

في هذا السياق، تبرز التجربة السعودية بوصفها نموذجاً ناضجاً ومختلفاً. فالمقاربة السعودية لم تختزل الإرهاب في البُعد الأمني، بل تعاملت معه بوصفه ظاهرة فكرية وثقافية ونفسية. من برامج مناقشة الفكرة والتنبه لخطرها على مستوى القيادة السياسية والمجتمع، إلى تجفيف منابع التمويل، إلى تفكيك الخطاب المتطرف، إلى الاستثمار في الوقاية المبكرة داخل الفضاء المجتمعي، وصولاً إلى المواجهة الرقمية المنظمة. هذه التجربة لا تدّعي الكمال، لكنها تقدم درساً مهماً: الإرهاب لا يُهزم فقط حين يقتل أفراده فحسب، بل حين يُفقد معناه وجاذبيته داخل المجتمعات.

العالم اليوم أمام لحظة مفصلية. «داعش» لم يعد عدواً بملامح واضحة يمكن الإشارة إليها، بل بات شبكة أفكار متنقلة، تستثمر في الهشاشة الفردية، وفي الفراغات السياسية، وفي الفوضى الرقمية. مواجهة هذا النمط تتطلب استراتيجية عالمية موحدة، لا تقوم فقط على تبادل المعلومات الأمنية، بل على تنسيق فكري وإعلامي وثقافي، ومن دون ذلك سيظل كل تجمع مزدحم، احتفالياً كان أو سياحياً، مساحة مفتوحة لفكرة قررت أن تجعل العالم ساحة تهديد دائمة.

يوسف الديني