في قلب الشرق الأوسط، حيث تُحاكي القذائف قصص الدراغون الأسطوري وتروي الأمواج حكايات البحر المتوسط، تقف غزة كالشعلة الصامدة في وجه الرياح العاتية ،غزة، تلك البقعة الصغيرة التي تعيش في قلب العاصفة، محاصرة بين جدران القهر وظلمات الاحتلال، تجسد معاناة لا يمكن وصفها ولا يتخيلها عقل بشري.
هناك في سماء غزة،المتحشة بسواد الدخان وكأنها الذبيجة في الخمار الأسود،و حيث تتراكم غيوم الظلم والقهر،وتختلط ألوان الشروق بلهيب القنابل، فيصبح الفجر مرثية تنسجها أصوات الانفجارات وزفرات المكلومين.
هناك، على أرض الأنبياء التي تشربت دماء الأبرياء، ترقد أحلام تحت الأنقاض وتظل الأرواح حرة رغم القيود والحدود.
هناك، يتحول الألم إلى لغة مشتركة، يتحدث بها الكل تحت وابل القنابل والصواريخ التي لا تميز بين صغير وكبير، بين حجر وشجر، بين حياة وبقايا، ينزف القلب الفلسطيني وسط دوامة من الدمار والقتل والتجويع ويمضي اليوم كأنه ألف عام، ويرسم الموت ملامح النهار والليل.
هناك ..في كل زاوية من شوارع غزة، تجد قصصًا لأبطال ولدوا من رحم المعاناة، أطفال بعيون تشع بالبراءة تملؤها الدموع يتساءلون عن ذنبهم، وأمهات يربطن على قلوبهن الممزقة يجلدهن الفقدان، يعصرن الحزن ليخبزن منه خبز القوة و ينسجن من دموعهن أثواب الصبر،ليصنعن من صبرهن أشرعةً لمراكب الأمل و رجالٌ يقفون بجباه تعلوها جبال من الصمود، يزرعون في كل خطوة لهم بذور المقاومة، حاملين على أكتافهم أثقال وطنٍ جريح وأمل أمة، يتحدون الموت بقلوب عصية على الانكسار لا تعرف الانحناء ويرسمون بدمائهم الزكية خريطة الحرية.
هناك في غزة، لا تعرف متى يكون الموت قدرًا محتمًا، ولا متى تأتي لحظة وداع الأحبة، كل جدار مدمر يحمل قصة، وكل شظية تروي مأساة، وكل نداء استغاثة يخرج من قلب مظلوم.
هناك، جرح الأمة النازف وسط صمت العالم، وخيانة الأقربين، ومع ذلك، تبقى غزة مشعلة الأمل، رمز الكرامة والصمود، تروي بدمائها الطاهرة قصة شعب لا يقبل بالذل، وحكاية أرض لا تتنازل عن حقها في الحرية والكرامة ولا تنحني إلا لله.
هناك...الحياة مقاومة، والصبر سلاح، والأمل عنوان..غزة مدينة لا تموت، لأنها حياة في حد ذاتها، و"الصخرة" التي تتحطم عليها مؤامرات الخيانة والغدر وملحمة الصمود التي تضيء درب الحرية، وترسم بخطوط النار والماء طريق النصر المحتوم.
هناك، تختنق الكلمات في الحناجر، تعجز عن التعبير من هول المأساة،كيف يمكن للكلمات أن تصف أمًا تحتضن بقابا أشلاء فلذة كبدها؟ كيف يمكنها أن تنقل صرخة أب يبحث بين الركام عن بقايا أسرته؟ كيف يمكنها تصمد أمام دموع رضيع يستند على جدار مهترئ ،يفترش الارض ويلتحف السماء ،يمزق الجوع احشائه ويهدده المرض ؟كيف يمكنها أن ترسم صورة لمدينة تحترق، وكأنها في عصر الدراغون الأسطوري وأحلام تُغتال في وضح النهار؟
هناك، الجوع ليس مجرد غياب الطعام، بل هو سلاح يُستخدم لتركيع الشعب وكسر إرادته ،الحصار يجعل من الطعام والدواء أحلامًا بعيدة المنال، والأطفال يذهبون إلى مدارسهم بأجساد هزيلة وأرواح متعبة،و الأب ينظر إلى أطفاله بعينين مليئتين بالعجز، والأم تُخفي دموعها خلف ابتسامة واهية، محاولة أن تمنحهم قليلاً من الأمل في غدٍ أفضل.
هناك القتل ليس مجرد أرقام تُحصى، بل هو حكايات تتكسر معها القلوب، صرخات الأمهات الثكلى، وبكاء الأطفال الأيتام، وصمت الشيوخ الذين لم يتبقَ لهم سوى الانتظار، البيوت التي كانت يومًا مليئة بالحب والدفء، أصبحت الآن أطلالًا تروي قصص الدمار ،والشوارع التي كانت تعج بالحياة، أصبحت ممرات للموت والخراب.
وسط هذه اللوحة المأساوية، يقف العالم صامتًا، لا يحرك ساكنًا ،تخرج البيانات الجوفاء تلو البيانات، كلمات منمقة تفتقر إلى روح الفعل ولا تغير شيئا على أرض الواقع وتعقد الاجتماعات التي لا تثمر سوى مزيد من الصمت والجبروت الصهيوني.
والعالم الإسلامي، الذي يُفترض أن يكون السند والدعم، يقف متفرجًا وقد تلبس رداء النفاق، كأن الشعب الفلسطيني ليس من جلدته، وكأن القدس ليست في قلب عقيدته.
بلاد العرب التي تتغنى بالأخوة والوحدة، تحولت إلى كيانات منعزلة، تقف عاجزةً، غارقةًفي مستنقع الخذلان والتخاذل تُغلق أبوابها وتكتفي بالتنديد على شاشات التلفاز.
ولكن رغم كل هذا، تظل غزة رمز العزة والإباء ،تشبه تلك الشجرة التي تنبت في صحراء قاحلة، تقاوم الرياح العاتية وتظل واقفة، بجذورها المتشبثة في الأرض، ترويها دماء الشهداء، وتزينها أرواح المقاومين.
غزة كطائر الفينيق، يولد من تحت الرماد في كل مرة، لكنه يحترق مرارًا وتكرارًا في دائرة لا تنتهي من الألم والمقاومة ،هي، التي ينهض فيها الطفل من تحت الأنقاض كالأزهار التي تفتحت في حقل الألغام، ويضمد الشاب جراحه ليحمل البندقية ويكتب بدمائه قصائد الحرية، وتهدهد الأمّ أحزانها بنشيد الصمود لتزرع في أبنائها بذور العزة والإباء.
غزة ستبقى رمزًا للصمود والتحدي، ستبقى قصة ترويها الأجيال عن قوة الإنسان في مواجهة الظلم والقهر، ستظل غزة تشعل الأمل وتعانق الحياة رغم كل شيئ، في كل قنبلة تُلقى، في كل جدار يُهدم، في كل دمعة تُذرف، تعيد غزة تذكيرنا بأن الأمل لا يموت، وأن الحق سينتصر يومًا، مهما طال الظلام.
غزة ليست مجرد مدينة، بل هي أسطورة تكتب بدماء أهلها، وتظل شامخة في وجه الزمن، تصرخ بصوت عالٍ: لن نستسلم.