تقارير محكمة الحسابا، صراع الارادات في محاربة الفساد

لم يكن تقرير محكمة الحسابات الصادر قبل أسبوعين عن سنتي 2022-2023  مزعجا للرأي العام وللقوى الوطنية، وللمانحين والمؤسسات المهتمة بالتنصيف الاقتصادي لموريتانيا، ومتابعة برامج الشفافية في هذا البلد النائم فوق ثروات هائلة والغارق في أزمات تنموية متفاقمة، لم يكن التقرير صفعة على هذا المستوى فقط، بل كان كرة لهب تدحرجت بقوة بين أطراف متعددة من النظام، وأحرجت السلطة أيما إحراج سواء تعلق الأمر بمبدأ النشر أصلا، أو بما أثاره من انتقادات لاذعة لأداء السلطة التي تركز على الحرب على الفساد، وبين زنازينها متهمون من الطبقة السلطوية العليا مسجونون بتهم الفساد وتبديد المال العام.

كانت المرحلة الأولى محرجة جدا عندما سمح النظام بالكشف عن " أخطاء وسوء تسيير" وفق تفسير رئيس محكمة الحسابات.

وتمثل خطورة هذه الأخطاء وسوء التسيير الذي جرف مليارات الأوقية عن مسارها الـأصلي في أنها أخطاء وقعت في عمق وظل نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وهو ما يعني أن كل السياسات والتوجيهات التي أعلنتها حكوماته المتعاقبة، لم تجد آذانا صىاغية ولم يهتم بها أحد، وهو ما يعني أيضا أن النظام نشر ملفا طويلا لإدانة كثير من أركان حكمه ومقربيه بأنهم عديمو الكفاءة، أو غير مهتمين بسلطة رقابية، وأن قوتهم في موقعهم السياسي أكثر من ولائهم وانسجامهم مع الضوابط والقيم القانونية.

حزب الإنصاف.. هستيريا المواقف

يمثل حزب الإنصاف التجمع الأهم لكبار الموظفين والمسيرين، وهو معني من قمته إلى قاعدته بكل حديث عن الفساد وأخطاء التسيير في موريتانيا، باعتبارها الذراع السياسية والمحامي المجتمعي والإعلامي عن النظام الضعيف إعلاميا.

ومن أجل ذلك أجهد الحزب نفسه في مواقف متناقضة أشبه ما تكون بالهستيريا، وطفق بعض قادته يهاجمون مناصري الحزب ممن انتقدوا حجم الأموال المبددة، وحجم ظاهرة الفساد، ويشككون في ولائهم للرئيس ونظامه،  حسب بعض المصادر داعين إلى اعتبار البراءة الأصلية، واستصحاب حال النزاهة والأمانة التي يتمتع بها مسيرو المال العمومي.

ولاحقا مع التحول الثالث بموجب قرار رئيس الجمهورية اتخاذ العقوبات المناسبة للمشمولين في تقارير محكمة الحسابات، بدأ الحزب يخلع عباءة التبرير والتسويغ ويبادر إلى التبشير بالقرارات الجديدة، وتأكيد مركزية الحرب على الفساد في أداء النظام.

وبغض النظر أكان فسادا ما جرى أم تفاسدا، فإنه يمثل الإحراج الأكبر للنظام على مستويات متعددة أبرزها: 

-   إظهار الضعف الشديد لكفاءة المسيرين، وضعف ارتباطهم بصحيح القانون، وضبابية تعاملهم مع اللوائح المنظمة للعمل.

- كل هذا الفساد ظهر خلال السنة الأولى من المأمورية الثانية ما يمثل تحديا لتعهدات رئيس الجمهورية الصريحة والقوية التي قال: " لن يكون هناك مكان بيننا لمن يُصرُّ على مد يده للمال العام، كائنًا من كان، ولن يُراعى في ذلك أي اعتبار."

-   تظهر التقارير حاجة القوانين المالية للتحديث، حيث أن كثيرا من بنودها معيقة للعمل، مقيدة لأي مسير يريد النهوض بقطاعه..

-   أظهر التقرير  الحالي بالفعل فسادا كبيرا، سواء في فواتير ونفقات مضخمة، أو نفقات دون وثائق تثبتها، أو تخل عن المسؤولية تم بموجبه تبديد ثروات، وتعريض منشآت مهمة جدا للتلف والخطر، وهو ما يعني أنه فساد فعلي تماما.

-   أن محكمة الحسابات رغم ما قدمت في التقرير إلا أنها ما زالت ضعيفة الأداء، ومحدودة القدرات، وما زالت تقاريرها أقرب إلى الإنشائية منها إلى الفنية.

- أثبتت صياغة التقرير أن المحكمة لاتؤسس  تقاريرها   الجديدة  على تلك الماضية، ولاتتابع توصياتها السابقة، وإلا فماذا عن التقارير السالفة عن وزارة العمل الاجتماعي وغيرها من المؤسسات التي وردت في القرير السابق...

- ألم يكن من المناسب أن يحدث التقرير عن التوصيات  والقرارات الماضية و ماذا تم فيها.

- المحكمة في تقرير السابق 2019-2022  ذكرت نواقص وضعف وفساد في سوملك وهي اليوم تكرر بعض  تلك النواقص دون أن تنبه إلى أنها ملاحظات متكررة لم يحدث فيها تغيير مما يعني عدم الفاعلية الحكومية والسلبية اتجاه تقاريره المحكمة الشامخة؟.

يكون الأمر أكثر غرابة لأن المدير السابق ل سوملك استلم التقرير السابق والملاحظات المسجلة على الشركة وكأن شيئا لم يحدث..

- يظهر التقرير أن المحكمة الموقرة عثرت أخيرا على بعض الفساد في سوملك لم تعثر عليه  في المرة السابقة مما يعني نقصا في الفاعلية وضعفا في الأداء، ويعطي صورة من الشك وعدم اليقين عل عملها، وفي هذا " رد على رئيس المحكمة الموقر" حين ذكر أن بعض الحسابات والعمليات لها سينون ومع ذلك لم يكتشفوها إلا في التفتبش الحالي.

فهل يمكن اعتبار التراخي في التفتيش  من حسن أداء الأمانة.

-ما لا يمكن للنظام ولا الحزب نفيه ولا المراوغة فيه، هو أن الفساد مستشر جدا، وأن سياسة الرقمنة مكنت من القضاء على بعض من جيوب الفساد القليلة، المتعلقة بما كان المواطنون يمنحونه لوسطاء الخدمات من مبالغ زهيدة مقابل خدمات زهيدة، أما الفساد الأكبر فما زال كبيرا ومستمرا.

وإن من الفساد على سبيل المثال أن يستأثر رجل واحد بحصة الأسد مما تصرفه الدولة من أموال على الإنشاءات، والمصانع

وما مصير التقارير التي تحدثت عن فساد وسوء تسيير بمليارات ورفعت إلى الجهات العليا دون أن يجد أصحابها غير مزيد من الترقيات، هنالك أكثر من سؤال حول إرادة محاربة الفساد، والأكيد – في انتظار الجواب – أن هنالك إرادة فعلية لمحاربته، وإرادة كابحة، فلمن ستكون الغلبة؟.

موقع الفكر